فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وبين ما وقع بإزائه من إرادته تعالى لإغوائهم، وإنما تقصر في ذلك على مجرد إرادة الإغواء دون نفسه حيث لم يقل إن كان الله يغويكم مبالغة في بيان غلبة جنابه جل جلاله حيث دل ذلك على أن نصحه المقارن للاهتمام به لا يجديهم نفعًا عند مجرد إرادة الله تعالى إغواءهم فكيف عند تحققه وخلقه فيهم، وزيادة: {كَانَ} للإشعار بتقدم إرادته تعالى زمانًا كتقدمه رتبة، وللدلالة على تجددها واستمرارها، وقدم على هذا الكلام ما يتعلق بقولهم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [هود: 32] من قوله: {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاء} [هود: 33] ردًا عليهم من أول الأمر وتسجيلًا عليهم بحلول العذاب مع ما فيه من اتصال الجواب بالسؤال قال ذلك مولانا شيخ الإسلام ثم إن: {إِنْ أَرَدْتُّ} أن أبقى على الاستقبال لا ينافي كونه نصحهم في الزمن الماضي، وقيل: إنه مجاراة لهم لاستظهار الحجة لأنهم زعموا أن ما فعله ليس بنصح إذ لو كان نصحًا قبل منه، واللام في: {لَكُمْ} ليست للتقوية كما قد يتوهم لتعدي الفعل بنفسه كما في قوله:
نصحت بني عوف فلم يتقبلوا ** رسولي ولم تنجح لديهم رسائلي

لما في الصحاح أنه باللام أفصح، وفي الآية دليل على أن إرادة الله تعالى مما يصح تعلقها بالإغواء وأن خلاف مراده سبحانه محال، وإلا لم تصدق الشرطية الدالة على لزوم الجواب للشرط، والمعتزلة وقعوا في حيص بيص منها واختلفوا في تأويلها، فقيل: إن: {يُغْوِيَكُمْ} بمعنى يهلككم من غوى الفصيل إذا بشم من كثرة شرب اللبن فهلك، وقد روى مجئ الغوى بمعنى الهلاك الفراء وغيره، وأنكره مكي.
وقيل: إن الإغواء مجاز عن عقوبته أي إن كان الله يريد عقوبة إغوائكم الخلق وإضلالكم إياهم.
وقيل: إن قوم نوح كانوا يعتقدون أن الله تعالى أراد إغوائهم فأخرج عليه السلام ذلك مخرج التعجب والإنكار أي إن نصحي لا ينفعكم إن كان الأمر كما تزعمون، وقيل: سمي ترك إلجائهم وتخليتهم وشأنهم إغواء مجازًا، وقيل: إن نافية أي ما كان الله يريد أن يغويكم، ونفى ذلك دليل على نفي الإغواء، ويكون: {لاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى} إلخ إخبارًا منه عليه السلام لهم وتعزية لنفسه عنهم لما رأى من إصرارهم وتماديهم على الكفر، ولا يخفى ما في ذلك من مخالفة الظاهر المعروف في الاستعمال وارتكاب ما لا ينبغي ارتكاب مثله في كلام الملك المتعال.
ومن الناس من اعترض الاستدلال بأن الشرطية لا تدل على وقوع الشرط ولا جوازه فلا يتم ولا يحتاج إلى التأويل ولا إلى القال والقيل، ودفع بأن المقام ينبو عنه لعدم الفائدة في مجرد فرض ذلك فإن أرادوا إرجاعه إلى قياس استثنائي فإما أن يستثني عين المقدم فهو المطلوب أو نقيض التالي فخلاف الواقع لعدم حصول النفع.
وبالجملة الآية ظاهرة جدًا فيما ذهب إليه أهل السنة، والله سبحانه الموفق: {هُوَ رَبُّكُمْ} أي خالقكم ومالك أمركم: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجازيكم على أفعالكم لا محالة.
{أَمْ يَقُولُونَ} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يعني نوحًا عليه السلام أي بل أيقول قوم نوح أن نوحًا افترى ما جاء به مسندًا إلى الله تعالى عز وجل: {اثنين قُلْ} يا نوح: {إِنِ افتريته} بالفرض البحت.
{فَعَلَىَّ إِجْرَامِى} أي وباله فهو على تقدير مضاف، أو على التجوز بالسبب عن المسبب، وفسر الإجرام بكسب الذنب وهو مصدر أجرم، وجاء على قلة جرم، ومن ذلك قوله:
طريد عشيرة ورهين ذنب ** بما (جرمت) يدي وجنى لساني

وقرئ: {إِجْرَامِى} بفتح الهمزة على أنه كما قال النحاس: جمع جرم، واستشكل العز بن عبد السلام الشرطية بأن الافتراء المفروض هنا ماض والشرط يخلص للاستقال بإجمال أئمة العرب، وأجاب أن المراد كما قال ابن السراج إن ثبت أني افتريته فعلي إجرامي على ما قيل في قوله تعالى: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116]: {وَأَنَاْ بَرِئ مّمَّا تُجْرَمُونَ} أي من إجرامكم في إسناد الافتراء إلي، قيل: والأصل إن افتريته فعلى عقوبة افترائي ولكنه فرض محال وأنا برئ من افترائكم أي نسبتكم إياي إلى الافتراء، وعدل عنه إدماجًا لكونهم مجرمين، وأن المسألة معكوسة، وحملت: {مَا} على المصدرية لما في الموصولية من تكلف حذف العائد مع أن ذلك هو المناسب لقوله: {إِجْرَامِى} فيما قبل، وما يقتضيه كلام ابن عباس من أن الآية من تتمة قصة نوح عليه السلام وفي شأنه هو الظاهر، وعليه الجمهور، وعن مقاتل أنها في شأن النبي صلى الله عليه وسلم مع مشركي مكة أي بل أيقول مشركو مكة افترى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر نوح، قيل: وكأنه إنما جئ به في تضاعيف القصة عند سوق طرف منها تحقيقًا لحقيقتها وتأكيدًا لوقوعها وتشويقًا للسامعين إلى استماعها لاسيما وقد قص منها طائفة متعلقة بما جرى بينه عليه السلام وبين قومه من المحاجة، وبقيت طائفة مستقلة متعلقة بعذابهم، ولا يخفى أن القول بذلك بعيد وإن وجه بما وجه، وقال في الكشف: إن كونها في شأن النبي صلى الله عليه وسلم أظهر وأنسب من كونها من تتمة قصة نوح عليه السلام لأن: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} كالتكرير لقوله سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} دلالة على كمال العناد وأن مثله بعد الإتيان بالقصة على هذا الأسلوب المعجز مما لا ينبغي أن ينسب إلى افتراء فجاء زيادة إنكار على إنكار كأنه قيل: بل أمع هذا البيان أيضًا يقولون: {افتراه} وهو نظير اعتراض قوله سبحانه في سورة العنكبوت: {وَإِن تُكَذّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مّن قَبْلِكُمْ} بين قصة إبراهيم عليه السلام في أحد الوجهين انتهى، ولا أراه معولًا عليه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
فصلت هذه الجملة فصلًا على طريقة حكاية الأقوال في المحاورات كما تقدم في قصة آدم عليه السلام من سورة البقرة.
والمجادلة: المخاصمة بالقول وإيراد الحجّة عليه، فتكون في الخير كقوله: {يجادلنا في قوم لوطٍ} [هود: 74]، ويكون في الشر كقوله: {ولا جدال في الحجّ} [البقرة: 197].
وإنما أرادوا أنه جادلهم فيما هو شر فعبّر عن مرادهم بلفظ الجدال الموجّه، وقد مضى عند قوله تعالى: {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} في سورة [النساء: 107].
وهذا قول وقع عقب مجادلته المحكية في الآية قبل هذه، فتعين أن تلك المجادلة كانت آخر مجادلة جادَلها قومه، وأن ضجرهم وسآمتهم من تكرار مجادلته حصل ساعتئذٍ فقالوا قولهم هذا، فكانت كلها مجادلات مضت.
وكانت المجادلة الأخيرة هي الّتي استفزّت امتعاضهم من قوارع جدله حتى سئموا من تزييف معارضتهم وآرائهم شأن المبطل إذا دمغته الحجة، ولذلك أرادوا طي بساط الجدال، وأرادوا إفحامه بأن طلبوا تعجيل ما توعدهم من عذاب ينزل بهم كقوله آنفًا: {إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم} [هود: 26].
وقولهم: {فأكثرت جِدَالَنا} خبرٌ مستعمل في التذمر والتضجير والتأييس من الاقتناع، أجابهم بالمبادرة لِبيان العذاب لأن ذلك أدخل في الموعظة فبادر به ثم عاد إلى بيان مجادلته.
والإتيان بالشيء: إحضاره.
وأرادوا به تعجيله وعدم إنظاره.
و: {ما تَعِدنا} مصداقه: {عذاب يوم أليم} [هود: 26].
والقصر في قوله: {إنما يأتيكم به الله إن شاء} قصر قلب بناء على ظاهر طلبهم، حملًا لكلامهم على ظاهره على طريقة مجاراة الخصم في المناظرة، وإلاّ فإنهم جازمون بتعذّر أن يأتيهم بما وعدهم لأنهم يحسبونه كاذبًا وهم جازمون بأنّ الله لم يتوعدهم، ولعلّهم كانوا لا يؤمنون بوجود الله.
وقوله: {إن شاء} احتراس راجع إلى حمل العذاب على عذاب الدنيا.
ومعنى: {وما أنتم بمعجزين} ما أنتم بناجين وفالتين من الوعيد، يريد أن العذاب واقع لا محالة.
ولعل نوحًا عليه السّلام لم يكن له وحي من الله بأن يحلّ بهم عذاب الدنيا، فلذلك فوّضه إلى المشيئة؛ أو لعلّه كان يوقن بنزوله بهم فيكون التعليق بـ: {إن شاء} منظورًا فيه إلى كون العذاب معجلًا أو مؤخرًا.
{وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ}
عَطَف على وعظهم بحلول العذاب وتوقعه بيانَ حال مجادلته إيّاهم التي امتعضوا منها بأنها مجادلة لنفعهم وصلاحهم، وفي ذلك تعريض بتحميقهم وتسفيه آرائهم حيث كرهوا ما هو نفع لهم.
والنصح: قول أو عمل يريد صاحبه صلاح المعمول لأجله.
وأكثر ما يطلق على الأقوال النافعة المنقذة من الأضرار.
ويكون بالعمل كقوله تعالى: {إذا نصحوا لله ورسوله} في سورة [التوبة: 91].
وفي الحديث: «الدين النصيحة لله ولرسوله» أي الإخلاص في العمل لهما لأنّ الله لا ينبّأ بشيء لا يعلمه.
وقد تقدم في قوله تعالى: {ونصحتُ لكم ولكن لا تحبون النّاصحين} في سورة [الأعراف: 79].
فالمراد بالنصح هنا هو ما سمّاه قومه بالجدال، أي هو أولى بأن يسمّى نصحًا، لأن الجدال يكون للخير والشر كما تقدم.
وجملة الشرط في قوله: {إن كان الله يريد أن يغويكم} هي المقصود من الكلام، فجوابها في معنى قوله: {لا ينفعكم نصحي} ولكن نظم الكلام بني على الإخبار بعدم نفع النصح اهتمامًا بذلك فجعل معطوفًا على ما قبله وأتي بالشرط قيدًا له.
وأمّا قوله: {إن أردت أن أنصح لكم} فهو شرط معترض بين الشرط وبين دليل جوابه لأنه ليس هو المقصود من التعليق ولكنه تعليق على تعليق، وغير مقصود به التقييد أصلًا، فليس هذا من الشرط في الشروط المفروضة في مسائل الفقه وأصوله في نحو قول القائل: إن أكلت، إن شربت فأنت طالق، لأنها مفروضة في شرط مقيّد لشرط آخر.
على أن المقصود إذا اجتمع فعلا الشرطين حصل مضمون جوابهما.
ومثلوه بقول الشاعر:
إن تستغيثوا بنا إن تُذْعَروا تَجدوا ** مِنّا مَعاقِل عزّ زانها كرم

فأما قوله: {إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم} فكل من الشرطين مقصود التعليق به.
وقد حذف جواب أحدهما لدلالة جواب الآخر عليه.
والتعليق بالشرط في قوله: {إن أردت أن أنصح لكم} مؤذن بعزمه على تجديد النصح في المستقبل لأن واجبه هو البلاغ وإن كرهوا ذلك.
وأشار بقوله: {إن كان الله يريد أن يغويكم} إلى ما هم فيه من كراهية دعوة نوح عليه السلام سببه خذلان الله إيّاهم ولولاه لنفعهم نصحه، ولكن نوحًا عليه السلام لا يعلم مراد الله من إغوائهم ولا مدى استمرار غوايتهم فلذلك كان عليه أن ينصح لهم إلى نهاية الأمر.
وتقدم الكلام على دخول اللام على مفعول (نصح) عند قوله تعالى: {إذا نصحوا لله ورسوله} في [براءة: 91].
والإغواء: جعل الشخص ذا غَواية، وهي الضلال عن الحق والرشد.
وجملة {هو ربكم} ابتدائية لتعليمهم أن الله ربهم إن كانوا لا يؤمنون بوجود الله، أو لتذكيرهم بذلك إن كانوا يؤمنون بوجوده ويشركون معه وُدًّا، وسوَاعًا، ويغوث، ويعوق، ونسرًا.
والتقديم في: {وإليه ترجعون} للاهتمام ولرعاية الفاصلة وليس للقصر، لأنهم لا يؤمنون بالبعث أصلًا بله أن يزعموا أنهم يُحْضرون إلى الله وإلى غيره.
وتمثلتْ فيما قصه الله من قصة نوح عليه السلام مع قومه صورة واضحة من تفكير أهل العقول السخيفة التي ران عليها الضلال فقلبَ أفكارها إلى اعوجاج فظيع، وهي الصورة التي تتمثل في الأمم التي لم يثقّف عقولها الإرشاد الديني فغلب عليها الانسياق وراء داعي الهوى، وامتلكها الغرور بظن الخطأ صوابًا، ومصانعة مَن تصأصئ عين بصيرته بلائح من النور، من يدعوه إلى إغماضها وعدمت الوازع النفساني فلم تعبأ إلاّ بالصور المحوسة ولم تهتمّ إلا باللذات وحب الذات ولا تزن بمعيار النقد الصحيح خلوص النفوس من دَخَل النقائص.
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ}
جملة معترضة بين جملة أجزاء القصة وليست من القصة، ومن جعلها منها فقد أبعد، وهي تأكيد لنظيرها السابق في أول السورة.
ومناسبة هذا الاعتراض أن تفاصيل القصة التي لا يعلمها المخاطبون تفاصيل عجيبة تدعو المنكرين إلى أن يتذكروا إنكارهم ويعيدوا ذكره.
وكون ذلك مطابقًا لما حصل في زمن نوح عليه السلام وشاهدة بكتب بني إسرائيل يدل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم لأن علمه بذلك مع أميته وبعد قومه عن أهل الكتاب آية على أنه وحي من الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فالاستفهام الذي يؤذن به حرف: {أم} المختصّ بعطف الاستفهام استفهام إنكاري.
وموقع الإنكار بديع لتضمنه الحجّة عليهم.
و: {أم} هنا للإضراب للانتقال من غرض لغرض.
وضمير النصب عائد إلى القرآن المفهوم من السياق.
وجملة: {قل} مفصولة عن التي قبلها لوقوعها في سياق المحاورة كما تقدم غير مرة.
وأمِرَ النبيءُ صلى الله عليه وسلم أن يعرض عن مجادلتهم بالدليل لأنهم ليسوا بأهل لذلك إذ قد أقيمت عليهم الحجة غير مرة فلم تغن فيهم شيئًا، فلذلك أجيبوا بأنه لو فرض ذلك لكانت تبعة افترائه على نفسه لا ينالهم منها شيء.
وتقديم (عليّ) مؤذن بالقصر، أي إجرامي عليّ لا عَليكم فلماذا تكثرون ادّعاء الافتراء كأنكم ستؤاخَذُون بتبعته.
وهذا جار على طريقة الاستدراج لهم والكلام المنصف.
ومعنى جعل الافتراء فعلًا للشرط: أنه إن كان وقع الافتراء كقوله: {إن كنت قلته فقد علِمْته} [المائدة: 116].
ولما كان الافتراء على الله إجرامًا عدل في الجواب عن التعبير بالافتراء مع أنهُ المدعى إلى التعبير بالإجرام فلا حاجة إلى تقدير: فعليّ إجرام افترائي.
وذكر حرف (على) مع الإجرام مؤذن بأن الإجرام مؤاخذ به كما تَقتضيه مادة الإجرام.
والإجرام: اكتساب الجرم وهو الذنب، فهو يقتضي المؤاخذة لا محالة.
وجملة: {وأنا بريء مما تجرمون} معطوفة على جملة الشرط والجزاء، فهي ابتدائية.
وظاهرها أنها تذييل للكلام وتأييده بمقابله، أي فإجرامِي عليّ لا عليكم كما أن إجرامكم لا تنالني منه تَبعة.
ولا حاجة إلى تقدير المضاف في قوله: {مما تجرمون} أي تبعته وإنما هو تقدير معنى لا تقدير إعراب، والشيءُ يؤكد بضدّه كقوله: {لاَ أعبد ما تَبعدُون ولا أنتم عابدون ما أعبد} [الكافرون: 2، 3].
وفي هذه الجملة توجيه بديع وهو إفادة تبرئة نفسه من أن يفتريَ القرآن فإنّ افتراء القرآن دعوى باطلة ادعَوها عليه فهي إجرام منهم عليه، فيكون المعنى وأنا بريء من قولكم الذي تجرمونه عليّ باطلًا. اهـ.

.قال الشعراوي:

{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
والجدال هو قول كلام يقابل كلامًا آخر، والقصد عند كل طرف متكلم أن يزحزح الطرف الآخر عن مذهبه بحجة أو بشبهة، بهدف إسقاط المذهب.
إذن: فالجدال هو مناقشة طرفين، يتقاسمان الكلام بهدف أن يقنع أحدهما الآخر بأن ينصرف عن مذهبه هو إلى مذهب القائل.
وكلمة الجدال مأخوذة من الجَدْل أي: الفَتْل، وفتل الحبل إنما يأتي من أخذ شعرات من الكتان أو الحرير أو أي مادة مثل هذا أو ذاك، ثم ضَمِّ شعرتين إلى بعضهما، ثم القيام بِلَفِّ كل شعرتين أخريين، وهكذا حتى يتم اكتمال الحبل.